هل يعود عصر الرسائل ؟

 

فانتازيا برس ـ إيمان الماجري

قلت ذات مرة لباحث جامعي يهتم بقضايا الأدب العربي القديم : هل توقفت عند هذا الفن الجديد من الرسائل الأدبية ؟ فأجابني بصراحة فيها شيء من الخجل : لا أعرف شيئا عن فن الرسائل القديم حتي أعرف شيئا عن فن الرسائل الجديدة .

ويتبين لنا بوضوح من خلال الرد الخجول لهذا الباحث أن دخولنا قفص التخصص قد قضى على روح الموسوعية التي كانت لأسلافنا القدماء والجدد ، وأعني بأسلافنا الجدد ذلك الصنف الممتاز من الدارسين الذين عرفهم النصف الأول من القرن العشرين فقد كانوا نموذجا رائعا لتلاقي القديم بالجديد ، ومثلما تفتحت مداركهم على الآداب الحديثة فقد اقتربوا ، بل إلتصقوا – إلى حدود مدهشة – بالأدب العربي القديم في شتى صوره وأشكاله ، من شعر و نثر ، وسير شعبية ، ومقامات ، ورسائل . وكان لهم في كل نوع من هذه الأنواع الأدبية مواقف وآراء .

ويبدو لي أن الضمور ، إن لم نقل الانحسار الذي لحق بفن الرسائل في طريقه ليشمل فنونا أخرى غير فن الرسائل الذي شكل ملمحا مهما في الأدب العربي وفي الآداب العالمية ، وهو ما يجعل المهتمين بتنوع حقول الإبداع ، يشعرون بالأسى تجاه غياب أي فن من هذه الفنون لأن غيابه لا يقل عن غياب قارة من القارات الخمس ليس لما يخلقه التنوع في أساليب الإبداع وحقول المعرفة من إثراء للوعي ومن تحريك للوجدان وإنما لما يتركه من فراغ وبما يوحي به من تضييق مساحة عالم الكتابة الإبداعية

لكن ما يبعث على الطمأنينة أن فن الرسائل يقاوم ويستمد المقاومة من حاجة عدد من المبدعين المعاصرين إليه ، وهو ما دفع شاعرين كبيرين هما في طليعة الشعراء العرب شهرة وتألقا إلى إحياء هذا الفن وأعني بهما محمود درويش وسميح القاسم فقد التفتا باهتمام إلى هذا الفن ، وأحسب أن كتابهما ” الرسائل ” الصادر في أواخر الثمانينات سيظل شاهدا على ما قلناه ونقوله عن قدرة الرسالة على التعبير المكثف السريع عن هموم العصر واستيعابها لحوار الأفكار والمشاعر بمستوى من التعبير قد يكون أقرب إلى التعبير العفوي عن اللحظات الراهنة من أي مستوى كتابي آخر

وكنت أظن أن الخطوة التي بدأ بها الشاعران الكبيران محمود وسميح ستخلق حالة من ردود الأفعال الجميلة وقتها تعيد العناية بهذا الحقل المهجور من حقول الإبداع الأدبي إلا أن ذلك لم يحدث ، ربما لأن الأوضاع المتردية دائما في الوطن العربي تسوق المبدعين إلى حالة من العزلة والانكفاء على الذات والابتعاد عن الحوار حتي في حده الأدنى وهو الحوار بالمراسلة . والذي هو في نظر محمود درويش ” سجل سيرة عفوية ، على مرأى من الناس ..كتابه على الأرصفة والحيطان …شكوى النفس لأختها النفس لا تخطيط لها ولا منهج ”

ولعلي أحتفظ بين أوراقي الكثيرة بمجموعة خاصة ونادرة من رسائل الأصدقاء الذين كتبوها في ظروف استثنائية وتحدثوا فيها عن قضايا خاصة وعامة عربية وإنسانية ، وعندما أرجع إليها بين حين وآخر أكتشف مدى ما يمتلكه الكاتب العربي ، مبدعا كان أم مفكرا صحفيا أم سياسيا أو انسانا عاديا

من استعداد للتعبير في هذا الإطار ، عن مكنونات نفسه بوضوح وصفاء ، ومن قدرة على إلتقاط جوهر الأمور وأكثرها حيوية وتوهجا في رسالة عادية أو أنه حين كتبها كان يحسبها كذلك ولو أنه قرأها اليوم بعد ثلاثين أو عشرين عاما فسيدرك أهميتها وأهمية الكلمة في الجمع بين الخاص والعام والثابت والعارض ،

وأن الوجدان البشري أشبه ما يكون بالبحر أو بالمحيط الذي لا تنتهي عجائبه ولا تستطيع قوة ما سبر أغواره . وكلما ابتعدنا عن شواطئه ازددنا دهشة بمحتوياته وجهلا بمخزوناته وأدركنا أكثر فأكثر أن إنسان الأزمنة القديمة هو نفسه إنسان الأزمنة الحديث مع اتساع دائرة المستجدات وتواصل التطور المذهل في حجم كتاب المعرفة .
وإذا كنت قد أشرت في الجزء الأول من هذا الحديث عن عودة عصر الرسائل إلى الأسباب التي أدت إلى انحسار هذا الفن في هذه المرحلة ،
وفي مقدمة تلك الأسباب ” الهاتف ” هذا الذي يجعلك تلتقط صوت صاحبك – متى شئت وحيث شئت – حتي لو كان في رحلة إلى القمر في مكالمة قصيرة تغنيك عن كتابة الرسالة ، فإنني أحاول هنا أن أضيف سببا آخر لا يقل أهمية وهو المتمثل بما يشبه الإجماع على أننا نعيش عصر الاختصار ” الميني” في كل شيء وأن فن الرسائل لا يصلح لعصرنا لأنه يعود إلى زمن ” المعلقات” و ” الموسوعات” وأن اختصار المسافات الناتج عن تطور وسائل النقل ينبغي أن يرافقه تطور مماثل في أساليب الكتابة من القصيد إلى البرقية ومن الرسالة إلى المكالمث الهاتفية .

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *